فصل: من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} لقد عرفنا من قبل أن هناك فرقًا بين القتل والموت، صحيح أن كليهما فيه إذهاب للحياة، لكن الموت: إذهاب للحياة بدون نقض البنية للجسم، ولكن القتل: إذهاب للحياة بنقض البنية كأن يكسر إنسان رأس إنسان آخر، أو يطلق رصاصة توقف قلبه، وهذا هدم للبنية، والروح لا تحل إلا في بنية لها مواصفات، والروح لم تذهب أولًا. بل إن البنية هدمت أولًا. فلم تعد صالحة لسكنى الروح، والمثل المعروف هو مصباح الكهرباء: إنك إن رميت عليه حجرًا صغيرًا، ينكسر وينطفئ النور برغم أن الكهرباء موجودة لكنها لا تعطي نورًا إلا في وعاء له مواصفات خاصة، فإذا ذهبت هذه المواصفات الخاصة يذهب النور، فتأتي بمصباح جديد له المواصفات الخاصة الصالحة فتجد النور قد جاء.
وكذلك الروح لا تسكن إلا في جسم له مواصفات خاصة، فإن جئت لهذه المواصفات الخاصة وسيدها المخ، وضربته ضربة قاسية، فقد نقضت البنية، وفي هذه الحالة تغادر الروح الجسد لأنه غير صالح لها، لكن الموت يأتي من غير نقض للبنية، ومصداق ذلك هو قول الحق سبحانه وتعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144].
أي أن هناك أمرين: هناك موت، وهناك قتل، فالموت هو سلب الحياة، والقتل هو سلب الحياة، ولكن القتل سلب الحياة بعد نقض البنية التي تسكن فيها الروح، ويختلف عن الموت لأن الموت هو خروج الروح دون قتل، ولذلك يقولون: مات حتف أنفه.
أي مات على فراشه ولم يحدث له أي شيء.
والذي يُقتل في الشهادة يقول فيه ربنا: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].
فإذا كان من يقاتل في سبيل الله قد امتثل لأمر الله فسوف يجد فضلًا أكثر، فكيف يكون جزاء من يقتل نفسه امتثالا لأمر ربه؟ إن امتحان النفس يكون بالنفس، وليس امتحان النفس بالعدو. وما الميزة في سيدنا إبراهيم؟ هل قال له الحق: أنا سأميت ولدك؟ أقال له إن واحدًا آخر سيقتل ابنك؟ لا، بل قال له: اذبحه أنت. وهذه هي ارتقاء قتل النفس، فيفدي الحق إسماعيل عليه السلام بكبش عظيم. إذن فإذا جاء الأمر بأن يقتل الإنسان نفسه فلابد أن هناك مرتبة أعلى. {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لأَتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا}. ويقول الحق بعد ذلك: {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا}.
ونحن أمام أمرين: إما أن يقتلوا، وإما أن يخرجوا من ديارهم، فقوله: {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} لمن؟ للذي قُتِل أم لمن خَرَج؟ هو قول لمن أخرج من دياره لأنه مازال على قيد الحياة.
ويقول الحق بعد ذلك: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ...}. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ}.
الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ مُتَمِّمٌ لِسِيَاقِ وُجُوبِ طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالتَّشْنِيعِ عَلَى مَنْ يَرْغَبُ عَنِ التَّحَاكُمِ إِلَى الرَّسُولِ وَيُؤْثِرُ عَلَيْهِ التَّحَاكُمَ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَعْدَ مَا بَيَّنَ تَعَالَى مَا يَنْبَغِي لِلرَّسُولِ مَعَ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ قَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ}
فَهَذَا كَالدَّلِيلِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ لِلْمَقْتِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرْضُوا بِحُكْمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّنَا أَرْسَلْنَا هَذَا الرَّسُولَ عَلَى حُكْمِنَا، وَسُنَّتُنَا فِي الرُّسُلِ قَبْلَهُ أَنَّنَا لَا نُرْسِلُهُمْ إِلَّا لِيُطَاعُوا بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى، فَمَنْ صَدَّ عَنْهُمْ وَخَرَجَ عَنْ طَاعَتِهِمْ، أَوْ رَغِبَ عَنْ حُكْمِهِمْ كَانَ خَارِجًا عَنْ حُكْمِنَا وَسُنَّتِنَا فِيهِمْ مُرْتَكِبًا أَكْبَرَ الْآثَامِ فِي ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: {بِإِذْنِ اللهِ} لِلِاحْتِرَاسِ؛ لِأَنَّ الطَّاعَةَ فِي الْحَقِيقَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَهَذَا الْقَيْدُ مِنْ قُيُودِ الْقُرْآنِ الْمُحْكَمَةِ الذَّاهِبَةِ بِظُنُونِ مَنْ يَظُنُّونَ أَنَّ الرَّسُولَ يُطَاعُ لِذَاتِهِ بِلَا شَرْطٍ وَلَا قَيْدٍ، فَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: إِنَّ الطَّاعَةَ الذَّاتِيَّةَ لَيْسَتْ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى رَبِّ النَّاسِ وَخَالِقِهِمْ، وَقَدْ أَمَرَ أَنْ تُطَاعَ رُسُلُهُ فَطَاعَتُهُمْ وَاجِبَةٌ بِإِذْنِهِ وَإِيجَابِهِ.
أَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْ رَسُولٍ} أَبْلَغُ فِي اسْتِغْرَاقِ النَّفْيِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: وَمَا أَرْسَلْنَا رَسُولًا، فَكُلُّ رَسُولٍ تَجِبُ طَاعَتُهُ، وَإِيجَابُ طَاعَةِ الرَّسُولِ تُشْعِرُ بِأَنَّ الرَّسُولَ أَخَصُّ مِنَ النَّبِيِّ؛ فَالرَّسُولُ لابد أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا لِشَرِيعَةٍ.
وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْإِذْنَ بِالْإِرَادَةِ، وَبَعْضُهُمْ بِالْأَمْرِ، وَبَعْضُهُمْ بِالتَّوْفِيقِ وَالْإِعَانَةِ، وَهُوَ مِمَّا تُجَادِلُ فِيهِ الْأَشْعَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَلَا مَجَالَ فِيهِ لِلْجِدَالِ، قَالَ الرَّاغِبُ: الْإِذْنُ فِي الشَّيْءِ إِعْلَامٌ بِإِجَازَتِهِ وَالرُّخْصَةِ فِيهِ نَحْوَ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ، أَيْ: بِإِرَادَتِهِ وَأَمْرِهِ اهـ، وَقَوْلُهُ: بِإِرَادَتِهِ وَأَمْرِهِ تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ وَإِلَّا فَالْإِذْنُ فِي اللُّغَةِ كَالْأَذَانِ وَالْإِيذَانِ لِمَا يُعْلَمُ بِإِدْرَاكِ حَاسَّةِ الْأُذُنَيْنِ أَيْ: بِالسَّمْعِ، فَقَوْلُهُ: {لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} مَعْنَاهُ بِإِعْلَامِهِ الَّذِي نَطَقَ بِهِ وَحْيُهُ وَطَرَقَ آذَانَكُمْ، كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ الَّتِي هِيَ أُمُّ هَذَا السِّيَاقِ: {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} وَمَا صَرَفَ الرَّازِيَّ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى الْبَدِيهِيِّ إِلَّا انْصِرَافُ ذَكَائِهِ لِلرَّدِّ عَلَى الْجُبَّائِيِّ دُونَ فَهْمِ الْآيَةِ فِي نَفْسِهَا بِمَا تُعْطِيهِ اللُّغَةُ الْفُصْحَى.
وَاسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ عَلَى عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَوَجْهُهُ أَنَّنَا مَأْمُورُونَ بِطَاعَتِهِمْ مُطْلَقًا فَهِيَ وَاجِبَةٌ، وَلَوْ أَتَوْا بِمَعْصِيَةٍ لَكُنَّا مَأْمُورِينَ بِطَاعَتِهِمْ فِيهَا، فَتَكُونُ بِذَلِكَ وَاجِبَةً، وَقَدْ فَرَضْنَا أَنَّهَا مَعْصِيَةٌ مُحَرَّمَةٌ، فَيَلْزَمُ تَوَارُدُ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ بِمَعْنَى النَّقِيضَيْنِ، وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ طَاعَتِهِمْ فِيمَا يَأْمُرُونَ أَوْ يَحْكُمُونَ بِهِ، فَالْمُمْتَنِعُ أَنْ يَحْكُمُوا أَوْ يَأْمُرُوا بِخِلَافِ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا أَفْعَالُهُمُ الَّتِي لَمْ يَأْمُرُوا بِهَا وَلَمْ يَحْكُمُوا بِهَا فَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِمْ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَكْبَرِ الطَّاعَاتِ فِي نَفْسِهَا، كَالتَّهَجُّدِ الَّذِي كَانَ مَفْرُوضًا عَلَى نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْهَا خَصَائِصُ كَتَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ الَّذِي أُبِيحَ لَهُ مِنْهُ مَا لَمْ يُبَحْ لِغَيْرِهِ.
وَمِنْ أَوَامِرِهِ وَأَحْكَامِهِ مَا يَكُونُ بِالِاجْتِهَادِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْوَاقِعَةِ، أَوِ الدَّعْوَى وَحْيٌ مُنَزَّلٌ، وَلَمْ يَقُولُوا بِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا قَالُوا: إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُقِرُّهُمْ عَلَى الْخَطَأِ فِيهِ، بَلْ يُبَيِّنُ لَهُمُ الْحَقَّ فِيهِ، وَقَدْ يُعَاتِبُهُمْ عَلَيْهِ كَمَا وَقَعَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْأَلَةِ أَسْرَى بَدْرٍ، وَمَسْأَلَةِ الْإِذْنِ لِبَعْضِ الْمُنَافِقِينَ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَلَكِنَّ الْخَطَأَ فِي الِاجْتِهَادِ لَيْسَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ فِي شَيْءٍ، فَهُوَ لَا يُنَافِي الْعِصْمَةَ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ هِيَ مُخَالَفَةُ مَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ أَوْ نَهَى عَنْهُ.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}، أَيْ وَلَوْ أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ رَغِبُوا عَنْ حُكْمِكَ إِلَى حُكْمِ الطَّاغُوتِ عِنْدَ ظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ {جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ}، مِنْ ذَنْبِهِمْ وَنَدِمُوا أَنِ اقْتَرَفُوهُ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُمْ {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ}، أَيْ دَعَا اللهَ أَنْ يَغْفِرَهُ لَهُمْ {لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} أَيْ لَتَقَبَّلَ اللهُ تَوْبَتَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَتَمَّ الْقَبُولِ وَأَكْمَلَهُ، وَتَغَمَّدَهُمْ بِرَحْمَتِهِ، وَغَمَرَهُمْ بِإِحْسَانِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ النَّصُوحَ كَثِيرًا مَهْمَا عَادَ صَاحِبُهَا، وَرَحْمَتُهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.
هَذَا هُوَ مَعْنَى صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي تَوَّابٍ رَحِيمٍ، وَإِنَّمَا قُرِنَ اسْتِغْفَارُهُمُ الَّذِي هُوَ عُنْوَانُ تَوْبَتِهِمْ بِاسْتِغْفَارِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ ذَنْبَهُمْ هَذَا لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا لِأَنْفُسِهِمْ فَقَطْ لَمْ يَتَعَدَّ شَيْءٌ مِنْهُ إِلَى الرَّسُولِ فَيَكْفِي فِيهِ تَوْبَتُهُمْ، بَلْ تَعَدَّى إِلَى إِيذَاءِ الرَّسُولِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ رَسُولٌ لَهُ وَحْدَهُ الْحَقُّ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، فَكَانَ لابد فِي تَوْبَتِهِمْ وَنَدَمِهِمْ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُمْ أَنْ يُظْهِرُوا ذَلِكَ لِلرَّسُولِ؛ لِيَصْفَحَ عَنْهُمْ فِيمَا اعْتَدَوْا بِهِ عَلَى حَقِّهِ، وَيَدْعُو اللهَ تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ إِعْرَاضَهُمْ عَنْ حُكْمِهِ، وَمِنْ هَذَا الْبَيَانِ تَعْرِفُ نُكْتَةَ وَضْعِ الِاسْمِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ إِذْ قَالَ: وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ، وَلَمْ يَقُلْ: {وَاسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ}، فَإِنَّ حَقَّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَيْهِ إِنَّمَا كَانَ لَهُ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللهِ وَأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاهُ اللهُ فِي وَحْيِهِ وَمَا هَدَاهُ إِلَيْهِ فِي اجْتِهَادِهِ، وَلَوْ أَنَّهُمُ اعْتَدَوْا فِي مَعْصِيَتِهِمْ عَلَى حُقُوقِهِ الشَّخْصِيَّةِ كَأَكْلِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ لَقَالَ: وَاسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ عَنِ الْمَعَاصِي الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ النَّاسِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً وَلَا صَحِيحَةً إِلَّا بَعْدَ اسْتِرْضَاءِ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَجَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ نُكْتَةَ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ إِجْلَالَ مَنْصِبِ الرِّسَالَةِ وَالْإِيذَانَ بِقَبُولِ اسْتِغْفَارِ صَاحِبِ هَذَا الْمَنْصِبِ الشَّرِيفِ وَعَدَمِ رَدِّ شَفَاعَتِهِ، وَالظَّاهِرُ مَا قُلْنَاهُ وَالْمَنْصِبُ هُوَ هُوَ فِي شَرَفِهِ وَعُلُوِّهِ، وَلَكِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ لِلْمُنَافِقِينَ إِذَا لَمْ يَتُوبُوا وَإِنِ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ لَهُ فِيهِمْ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ} [9: 80]، وَالْآيَةُ نَاطِقَةٌ بِأَنَّ التَّوْبَةَ الصَّحِيحَةَ تَكُونُ مَقْبُولَةً حَتْمًا إِذَا كَمُلَتْ شَرَائِطُهَا، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ مِنْهَا أَنْ تَكُونَ عَقِبَ الذَّنْبِ كَمَا يَدُلُّ الشَّرْطُ، وَالْعَطْفُ بِالْفَاءِ وَهُوَ بِمَعْنَى {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [4: 17]، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ.
وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى تَرْكَ طَاعَةِ الرَّسُولِ ظُلْمًا لِلْأَنْفُسِ أَيْ إِفْسَادًا لِمَصْلَحَتِهَا؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ هَادٍ إِلَى مَصَالِحِ النَّاسِ فِي دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ، وَهَذَا الظُّلْمُ يَشْمَلُ الِاعْتِدَاءَ وَالْبَغْيَ وَالتَّحَاكُمَ إِلَى الطَّاغُوتِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَالِاسْتِغْفَارُ هُوَ الْإِقْبَالُ عَلَى اللهِ، وَعَزْمُ التَّائِبِ عَلَى اجْتِنَابِ الذَّنْبِ، وَعَدَمُ الْعَوْدِ إِلَيْهِ مَعَ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا الِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ عَقِبَ الذَّنْبِ مِنْ دُونِ هَذَا التَّوَجُّهِ الْقَلْبِيِّ فَلَيْسَ اسْتِغْفَارًا حَقِيقِيًّا.
أَقُولُ: يَعْنِي أَنَّ مَا اعْتَادَهُ النَّاسُ مِنْ تَحْرِيكِ اللِّسَانِ بِلَفْظِ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ لَا يُعَدُّ طَلَبًا لِلْمَغْفِرَةِ؛ لِأَنَّ الطَّلَبَ الْحَقِيقِيَّ يَنْشَأُ عَنِ الشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى الْمَطْلُوبِ، فَلابد أَنْ يَشْعُرَ الْقَلْبُ أَوَّلًا بِأَلَمِ الْمَعْصِيَةِ وَسُوءِ مَغَبَّتِهَا، وَبِالْحَاجَةِ إِلَى التَّزَكِّي مِنْ دَنَسِهَا، وَلَا يَكُونُ هَذَا إِلَّا بِمَا ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ مِنَ التَّوَجُّهِ الْقَلْبِيِّ إِلَى اللهِ بِالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْعَزْمِ الْقَوِيِّ عَلَى اجْتِنَابِ سَبَبِ هَذَا الدَّنَسِ، وَهُوَ الْمَعْصِيَةُ، وَكَيْفَ يَكُونُ مُتَأَلِّمًا مِنَ الْقَذَرِ الْحِسِّيِّ مَنْ أَلِفَهُ وَعَرَّضَ بَدَنَهُ لَهُ إِذَا طَلَبَ غَسْلَهُ بِاللِّسَانِ، وَهُوَ لَا يَتْرُكُ الِالْتِيَاثَ بِهِ وَلَا يَدْنُو مِنَ الْمَاءِ؟
وَقَالَ فِي اسْتِغْفَارِ الرَّسُولِ: إِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مُشَارَكَةَ النَّاسِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فِي الدُّعَاءِ مَسْنُونَةٌ، وَأَنَّ مِنْ سُنَّتِهِ تَعَالَى أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنَ الْجَمَاعَةِ بِأَسْرَعِ مِمَّا يَتَقَبَّلُ مِنَ الْوَاحِدِ، فَدُعَاءُ الْجَمَاعَةِ أَرْجَى لِلْإِجَابَةِ إِنْ كَانَ كُلُّ دَاعٍ مَوْعُودًا بِالِاسْتِجَابَةِ، وَحَقِيقَةُ الدُّعَاءِ: إِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ وَالْخُضُوعِ لَهُ تَعَالَى، وَالْإِجَابَةُ الَّتِي وَعَدَ بِهَا: هِيَ الْإِثَابَةُ وَحُسْنُ الْجَزَاءِ، فَمَتَى أَخْلَصَ الدَّاعِي أَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ سَوَاءٌ كَانَ بِإِعْطَائِهِ مَا طَلَبَ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْمُشَارَكَةُ فِي الدَّاءِ أَرْجَى لِلْقَبُولِ؛ لِأَنَّ الدَّاعِينَ الْكَثِيرِينَ لِشَخْصٍ يُؤَدُّونَ هَذِهِ الْعِبَادَةَ بِسَبَبِهِ، أَيْ أَنَّ ذَنْبَهُ يَكُونُ هُوَ السَّبَبَ فِي شُعُورِهِمْ وَإِحْسَاسِهِمْ كُلِّهِمْ بِالْحَاجَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَالْخُضُوعِ لَهُ وَالِاتِّحَادِ الْمَرْضِيِّ عِنْدَهُ، فَكَأَنَّ حَاجَتَهُ حَاجَتُهُمْ كُلِّهِمْ، فَإِذَا كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الدَّاعِيَ وَالْمُسْتَغْفِرَ لِأُولَئِكَ التَّائِبِينَ مِنْ ظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ مَعَ اسْتِغْفَارِهِمْ هُمْ، فَذَلِكَ مِنَ اشْتِرَاكِ قَلْبِهِ الشَّرِيفِ مَعَ قُلُوبِهِمْ بِالْحَاجَةِ إِلَى تَطْهِيرِ اللهِ لَهُمْ مِنْ دَنَسِ الذَّنْبِ وَطَلَبِ النَّجَاةِ مِنْ عُقُوبَتِهِ، وَنَاهِيكَ بِقُرْبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَبِّهِ وَالرَّجَاءِ فِي اسْتِجَابَةِ دُعَائِهِ.
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ اسْتِغْفَارِ الرَّسُولِ إِلَى اسْتِغْفَارِهِمْ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ تَوْبَتَهُمْ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا رَضِيَ عَنْ تَوْبَتِهِمْ رِضًا كَامِلًا، بِحَيْثُ يَشْعُرُ قَلْبُهُ الرَّحِيمُ بِالْمُؤْمِنِينَ بِحَاجَتِهِمْ إِلَى الْمَغْفِرَةِ لِصِحَّةِ تَوْبَتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ، فَذَنْبُهُمْ ذَلِكَ لَا يُغْفَرُ إِلَّا بِضَمِّ اسْتِغْفَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى اسْتِغْفَارِهِمْ، وَلَيْسَ كُلُّ ذَنْبٍ كَذَلِكَ، بَلْ يُكْتَفَى فِي سَائِرِ الذُّنُوبِ بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُذْنِبِ حَيْثُ كَانَ، وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى اهـ.
أَقُولُ: وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا الذَّنْبِ وَغَيْرِهِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ بُعْدُ مَنْ قَاسَ كُلَّ ذَنْبٍ عَلَى ذَنْبِ الرَّغْبَةِ عَنِ التَّحَاكُمِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِيثَارِ التَّحَاكُمِ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَقَاسَ كُلَّ مُذْنِبٍ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ أَعْرَضَ عَنْ حُكْمِهِ فِي حَيَاتِهِ، فَجَعَلَ مَجِيءَ كُلِّ مُذْنِبٍ إِلَى قَبْرِهِ الشَّرِيفِ وَاسْتِغْفَارَهُ عِنْدَهُ كَمَجِيءِ مَنْ أَعْرَضُوا عَنْ حُكْمِهِ فِي حَيَاتِهِ تَائِبِينَ مُسْتَغْفِرِينَ لِيَعْفُوَ عَنْ حَقِّهِ عَلَيْهِمْ وَيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ.